د. عبد القادر دريدي أكاديمي وكاتب صحفي
يبعث اللقاء الاعلامي الذي أجراه وزير الشؤون الخارجية صبري بوقادوم على شاشة روسيا اليوم على هامش زيارته إلى موسكو يوم الثلاثاء المنصرم، على كثير من التساؤلات الاستراتيجية المتعلقة بالأزمة الليبية تحديدا، خاصة وأني أجد في تصريح الوزير كثيرا من التشابه المنهجي والمعرفي مع ماقبل 22 فبراير حتى لا أقول كلاما آخر قد يفهم على أنه تحامل على السيد بوقادوم الذي أتابع تصريحاته منذ أكثر من خمس سنوات على الأقل ولطالما كنت معجبا بتصريحاته على مستوى الأمم المتحدة لاسيما تلك المتعلقة بالقضية الصحراوية، ولهذا فأنا أعترف له بالكفاءة والخبرة في المسائل الدبلوماسية والسياسية وهو الذي ربط دوما في مساره بين ثلاثية الدبلوماسية، السياسة و الأزمة.ولهذا، فإن الخبرة التي يتمتع بها السيد بوقادوم تحتم علي أن أتعامل مع تصريحاته بمنطق العقل السياسي الجزائري الذي يرفض الاستغباء ولا يطلب سوى احترامه كعقل بشري قادر على فهم محيطه السياسي الداخلي والخارجي واستيعاب المعطيات التاريخية والمتغيرات الجيوسياسية التي تؤثر فينا كبلد وفي الأزمة الليبية التي تعني الجزائر بشكل مباشر.يقول الوزير أن المقاربة الجزائرية بخصوص الأزمة في ليبيا “معروفة ولم تلق أية معارضة من أي طرف” من الأطراف الدولية، هذا جزء من الحقيقة و لكن الحقيقة كاملة هي أن هذه المقاربة لم تلق تأييدا واضحا حتى من دول الجوار على ضعفها، ولهذا بقيت لحد الآن قاصرة ولا تملك آليات فرضها على أرض الواقع، و هنا يأتي الشق الثاني من هذه المقاربة وهو الأكثر غموضا وعبثية في رأيي، ولكنه لازال يبعث التفاؤل في الخارجية الجزائرية وهو أن ننتظر حتى تتمكن جميع الأطراف من تدمير بعضها في ليبيا أو تعجز عمليا عن ذلك ليتحقق مبدأ توازن القوى، ثم يبرز الطرح الجزائري كنتيجة حتمية تمكن الجزائر من فرض نفسها كوسيط بين جميع الاقوياء او جميع الضعفاء، وهو ما يشرح تمسك الدبلوماسية الجزائرية بسياسة “الحفاظ على نفس المسافة مع الجميع” حتى وإن كان ذلك على حساب مصالحها التي تبدو هلامية لحد الآن. والحقيقة أن الجزائر مارست “سياسة النعامة” و أن مسألة فرض نفسها في الأزمة الليبية لا يمكن أن تتم خارج تحالفات معينة يكون أساسها التواجد العسكري – ليس بالضرورة الجزائري- في الداخل الليبي. أيضا، يقول الوزير أن “القبائل الليبية قد تصبح مصدر خطر على الجزائر إذا لجأت إلى السلاح بفعل إحساسها بالتهميش وتجاهل انشغالاتها”. هذا كلام في غاية الدقة ولكنه معروف ومتأخر كثيرا، فالقبائل الليبية ناشدت الجزائر، منذ 2012 وفي أكثر من مناسبة للتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، سياسيا أو اقتصاديا لمساعدتها في وضعها الذي يتدهور أكثر فأكثر و أن تفتح الحدود أمام الحالات الانسانية و أن تسمح بمرور القوافل التجارية من الجزائر إلى ليبيا و ليس العكس، وهو قابلته الجزائر بغلق تام للحدود حتى امام الرعايا الجزائريين. وعليه كان من الأجدر بالسيد بوقادوم أن لا يعيد توصيف الوضع الذي اصبحنا نعرفه مثل الليبيين انفسهم، بل أن يقدم لنا حلولا ولو نظرية، بمعنى آخر أن لا يعيد لنا تصريحات زميله عبد القادر مساهل.أما مجانبة الحقيقة في كلام بوقادوم هو قوله بوجود تقارب نسبي في الرؤى بين الجزائر ومصر في هذه الأزمة، فالكل يعلم أن مصر لم تؤمن أبدا بآلية دول الجوار التي جاءت بمبادرة جزائرية فكانت دوما السباقة إلى نقض بيناتها الموقعة، كما أن كل المؤشرات تشير إلى وجود اختلافات جذرية بين الجزائر والقاهرة في التعاطي مع الأزمة في ليبيا، وهذا ما صرح به الرئيس تبون ضمنيا في أكثر من لقاء صحفي. و عليه، فقد أصبحنا نعلم ان دبلوماسيتنا تعمل بمبدأ أن “لا نقول كل ما نعرف”، و لكن لا يجب أن تتطور في إطار الجزائر الجديدة إلى قول ما هو غير حقيقي.زيادة على ذلك، فإن الصحفية لم تكن تعني دول الجوار التي لاحول لها ولا قوة من خلال سؤالها حول طبيعة العلاقة التي تربط الجزائر بالأطراف الدولية المعنية بالأزمة الليبية، بل كانت تقصد قطر وتركيا والإمارات والسعودية وفرنسا وإيطاليا وقبرص واليونان وهي دول ليست بالضرورة مهددة في أمنها القومي جراء هذه الأزمة بل تسعى إلى تحقيق مصالح وافرة عقب أية تفاهمات مستقبلية، وبالتالي فإن روح السؤال هو مدى قدرة الجزائر على اقناع هذه الأطراف بالتوقف عن تهديد أمنها القومي الذي يعد أكبر مصلحة جزائرية ضائعة في كل هذا الخضم، و هو سؤال تم الالتفاف عليه بكل دبلوماسية من طرف السيد الوزير. ولهذا كنت أتمنى لو طرحت الصحفية سؤالا آخر يتعلق بطبيعة المصالح التي تحاول الجزائر الحصول عليها، لأنه في حالة عدم وجود مصالح أخرى غير الأمن القومي فتلك فضيحة قومية.في الختام، قال الوزير أن “الجزائر لن تسمح بحدوث أي مكروه لليبيا”، استسمح السيد بوقادوم بالقول أن هذا كلام ديماغوجي وغير منطقي وهو استرجاع حرفي لتصريحات ماقبل 22 فبراير، لأن كل المكروهات حدثت بالفعل ولازالت تحدث في ليبيا وإذا قررت الأطراف الدولية تغيير الخريطة الليبية فسؤالي هو كيف يمكن للجزائر أن تمنعها من ذلك؟ سيدي الوزير، ان تصريحات من هذا النوع تساهم لامحالة في إحداث هشاشة مزمنة في العلاقة بين المواطن ودبلوماسيته، وهي العلاقة التي عانت من غيبوبة طويلة قبل أن تستعيد جزءا من عافيتها -أو يبدو لنا ذلك- بعد الحركية التي سجلتها الجزائر بخصوص الأزمة الليبية في الآونة الأخيرة.
أضف تعليقا