مرحلة مقاومة الاحتلال
لعب الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830م، دورا محوريا في نشأة الحراك الإسلامي لدى الشعب الجزائري، الذي وقف حائلا في وجه تغيير هوية البلاد إلى النمط الفرنسي، عن طريق تحويل مؤسسات الدولة وإخضاعها للفرنسية خاصة التعليم الديني والقضاء الشرعي، وبرزت في مرحلة المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي شخصيات مؤثرة منها الإمام عبدالحميد بن باديس.
استفاد ابن باديس من الحركات الإصلاحية التي ظهرت في الشمال الإفريقي خاصة مصر، ومنها حركة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، كما استفاد أيضا من الحركة الإصلاحية السلفية التي نشأت في الجزيرة العربية (1).
وتميزت دعوة ابن باديس، عن غيره من الحركات الإصلاحية، بأنها حركة مقاومة للاستعمار، مناهضة لمحو الهوية القومية للجزائر، انطلاقا من الدين فقال:” إنّ الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق فالباطن أساس الظاهر”(2).
ويمكن فهم منهج حركة ابن باديس الإصلاحية من خلال الدستور الذي وضعه لجمعية علماء المسلمين والتي أكد فيه مرجعية الجمعية السلفية فقال في المادة الخامسة منه:” سُلُوك السلف الصالح – الصحابة والتابعين وأتباع التابعين – تطبيق صحيح لهدي الإسلام”، وقال في المادة السادسة :” فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب السنة “. وقال في المادة العاشرة :” أفضل أمته بعده هم السلف الصالح لكمال اتباعهم له”. وقال في السابعة عشر:” ندعو إلى ما دعا إليه الإسلام ، وما بيناه من الأحكام بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الأئمة مع الرحمة والإحسان دون عداوة أو عدوان(3).
ولعبت الحركة الإصلاحية وعلى رأسها جمعية ابن باديس التي تم تأسيسها عام 1931م دورا مهما في الكفاح الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي إلى أن نالت الجزائر الاستقلال عام 1962م.
الحركات الإسلامية بعد الاستقلال
بعد أن نالت الجزائر استقلالها من الاستعمار الفرنسي، ظهرت الخلافات الداخلية، حول ماهية الدولة ومرجعيتها، وبدأ الصراع بين التيار الديني وغيره من التيارات، الأمر الذي أدى لظهور جماعة “الموحدين” السرية التي أسسها محفوظ نحناح، والشيخ محمد بوسليماني، وضمت مجموعة طلبة وأساتذة الجامعات والمدارس المتأثرين بجماعة الإخوان المسلمين ، وكانت تعمل على “مواجهة التوجه الاشتراكي للنظام الجزائري بعد أحداث عام 1965م، وأدت نشاطات هذه الجماعة المعادية لاشتراكية الدولة إلى اعتقال الشيخ نحناح مع عدد من اعضائها، وبعد خروجهم من السجن نهاية الثمانينات أسسوا جمعية الإرشاد والإصلاح الخيرية والتي تحولت إلى حزب بعد دستور فبراير 1989م، الذي اباح التعددية، وفي ديسمبر 1990م، تحولت الحركة إلى حركة المجتمع الإسلامي (حماس)، برئاسة الشيخ نحناح، وفي عام 1997م، اضطرت الحركة إلى إزالة صفة الإسلامي من اسمها لتصبح حركة مجتمع السلم (حسم) للتكيف مع قوانين الجمهورية لعام 1996م، والتي تحظر “استخدام الثوابت الوطنية لأغراض سياسية. وترى بعض الأدبيات أن الحركة ممثلة للتيار العالمي للإخوان المسلمين”(4).
وفي السبعينات، كان الظهور العلني لشباب الحركات الإسلامية في الجامعات مثلما كان الحال في مصر، ومثل التيار الإسلامي حتى عام 1988 ثلاث جماعات هي: التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ممثلا في أتباع محفوظ نحناح، وجماعة جاب الله أو الجماعة الإسلامية لمؤسسها عبدالله جاب الله، وجماعة مالك ابن نبي أو جماعة مسجد الجامعة المركزي.
أسامة بن لادن ودعم الجماعات الجزائرية
بعد الدعوة العالمية للجهاد في أفغانستان في نهاية السبعينات من القرن الماضي، استجاب عدد من الجزائريين ذوي التوجه الإسلامي للنداء، وكان على رأسهم أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي اقترح عدد من قياداتها تاسيس الجماعة الإسلامية المسلحة، والتي جاءت تسميتها من داخل افغانستان، فكانت أفغانستان مشتلا للجماعات المسلحة التي ارتكبت الكثير من المجازر والفظائع بحق الجزائريين خلال العشرية السوداء.
يروي أبو العدلان عبدالحق لعيايدة مؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة قصة تأسيس الجماعة فيقول:
“كانت هناك مجموعة من الأفغان الجزائريين تحمل هذا الاسم من هناك ومن ابرز الأفغان الذين شاركت في التأسيس ابو الليث المسيلي، وكان أميرهم في أفغانستان، وغربي مراد الأفغاني.
ويقول إن الختم الأول للجماعة الإسلامية المسلحة لم يأت من أفغانستان، صنع أمام عيني، لم يصنع ختم واحد فقط، كان هناك ختم الأمير الوطني، وختم آخر مختلف لأمير الوسط، واربعة أختام أخري تختلف عن الختمين الأولين لأمراء الشرق والغرب والشمال والجنوب”(5).
وفي اعتراف خطير نشرت دار إفريقيا المسلمة تحت عنوان “مذكرات من دفتر مجاهد، لأبي أكرم هاشم، قال فيها:
“وظل دعم زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن للجماعة المسلحة في الجزائر، “وما أن جاءت أحداث إضرابات (ذوالحجة 1411هـ/ مايو 1991م)، حتى بدا للشيخ ولكل متابع أن الجو متهيئ لبداية الجهاد، فشرع من أفغانستان بتهيئة المضافات وبجمع الإخوة الجزائريين، وانفق في ذلك أموالا ضخمة، وقد كانوا يتوافدون إلى الجزائر على نفقته لمشاركة إخوانهم في الداخل!!.
وفي (شوال 1412هـ/ ابريل 1992م)، دخل المجاهدون كابل، ولم تدم فرحتهم طويلا، حيث بدأ الاقتتال بين مختلف الأحزاب والفصائل، وبدأت تضيق الدائرة على المجاهدين العرب من طرف حكومة باكستان التي ترأسها الهالكة “بوتو”، مما زاد من اهتمام سائر الأخوة الجهاديين بالتفكير بما يحدث في الجزائر، وعلى راسهم الشيخ رحمه الله- أسامة بن لادن- وقد قام بتسليم الأخوة الجزائريين “معسكر الفاروق” بكامل معداته؛ لاستغلاله في التدريب، و”معسكر بدر” في منطقة جلال أباد لنفس الغرض، ولم تتوقف مساعدة الشيخ لإقامة ومساندة الجهاد في الجزائر إلى هذا الحد، بل كرس جهده ووقته لتطوير الجهاد في المنطقة؛ لكي يكون على أعلى مستوياته”(6).
الجبهة الإسلامية للإنقاذ
في 12 نوفمبر 1982 اجتمع مجموعة من عناصر الحركة الإسلامية بالجزائر منهم: احمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني وعباسي مدني ووجهوا نداءً من 14 بنداً يطالب بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية بالجزائر.
ودعا الشيخ الشاب علي بلحاج إلى تشكيل الجبهة الإسلامية الموحدة إلا أن عباسي مدني اقترح لها اسما آخر هو الجبهة الإسلامية للإنقاذ، معللاً هذه التسمية: بأن الجبهة تعني المجابهة، والاتساع لآراء متعددة، الإسلامية لأنه هو السبيل الوحيد للإصلاح والتغيير، الإنقاذ مأخوذ من الآية (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) [ آل عمران: 103]
رفض الشيخ محمد السعيد بداية تشكيل الجبهة لكنه التحق بها بعد الانتخابات البلدية. كما رفض محفوظ نحناح أيضاً الفكرة في البداية ثم أسس حركة المجتمع الإسلامي وأسس عبد الله جاب الله حركة النهضة الإسلامية.
تم الإعلان الرسمي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 18 فبراير 1989 م، بمبادرة من عدد من الدعاة المستقلين من بينهم عباسي مدني الذي أصبح رئيسًا للجبهة ونائبه علي بلحاج.واعترفت بها الحكومة الجزائرية رسميا في 6 سبتمبر 1989(7).
وخاضت الجبهة الانتخابات البلدية في عام 1990م، وحققت فوزاً كبيراً في 856 بلدية، وبعد هذا الفوز بدأ الحزب الحاكم في الجزائر وهو ـ جبهة التحرير ـ يشعر بخطر الجبهة على وجوده في الحكم والبلاد ايضا، فوقع الصدام بين الطرفين، وعلى إثر ذلك نشبت مظاهرات كبيرة تطالب بالإصلاح، انتهت بمصادمات دامية طيلة 10 أعوام هي العشرية السوداء.
تاريخانية الإسلام السياسي في الجزائر، تشير إلى تطور هذا التيار عبر مراحل زمنية مختلفة، لكنه تطور يعكس تباينًا في التحولات التي تشهد خاصة بين الظهور والأفول، وبين الهزات الداخلية التي تعصف بالتيار الإسلامي، وتوالي الإنشقاقات، وتحول المرجعية الواحدة إلى جملة من المرجعيات، خاصة بعد الظهور للعلن، وتجاوز مرحلة العمل السري، التي دخلها بعد الاستقلال وتبني نموذج الدولة الوطنية، من خلال فكرة الحزب الواحد، غير أنه بعد الظهور العلني، لم يلبث طويلاً حتى نجده تحول إلى أحد أهم أرقام الأزمة السياسية والأمنية التي مرت بها الجزائر، وهذا ما حتم على الإسلاميين الإنشقاق والتشظي من أجل مواجهة المرحلة التي فرضت عليهما، وهنا يمكن العودة إلى أحد أهم الحركات الإسلامية في الجزائر، حركة مجتمع السلم، لمحاولة الوقوف على أهم التحولات الكبرى التي شهدتها، خاصة بعد الإنفتاح والتعدد، طارحين التساؤل التالي: مستفسرين عن الأسباب التي تقف وراء الأزمات التي يعيشها التيار الاسلامي من خلال التطور الذي عرفه أكبر تيار وهو حركة مجتمع السلم؟
لكن عودة الإسلاميين إلى العمل السياسي الرسمي أو المقنن، أثبت أن خيار الاسلام هو الحل، أصبح يحمل عدة مشاريع، فمن جهة هي تتفق على أن الإسلام هو الحل، لكنها تختلف حول آليات توظيف هذا الإسلام، أو كيفية الوصول إلى السلطة، والعمل على إقامة الدولة الإسلامية، حيث ظهرت عدة تيارات منها الراديكالي الذي رفض التجاوب معه الديمقراطية، وأكد على ضرورة تجاوزها، حيث ربط بينها وبين الكفر، بينما ظهر تيارت أخرى اعترفت بالعمل السياسي، وحوالة الوصول إلى السلطة السياسية، عن طريق إحترام قواعد اللعبة الديمقراطية، والقبول بمبدأ المنافسة الإنتخابية، لكن سرعان ما دب الخلاف والشقاق داخل هذا التيار، بين اتجاه فضل المعارضة والأحجام عن دخول الحكومة، بينما نجد اتجاه آخر، قد أثار المشاركة السياسية، والتحول إلى شريك داخل الحكومة، خاصة بعد حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتحول حركة مجتمع السلم إلى الشريك الإسلامي الأكثر ثقلاً في الساحة السياسية، والأجدر بتمثيل التيار الإسلامي المهادن.
إلا أن الحركة وفي عهد الحرس القديم أو جيل التأسيس، الشيخ محفوظ نحناح استطاعت المزاوجة بين المعارضة، وبين الشريك السياسي الباحث عن خروج البلاد من المأزق الامني، إلا أن رحيل الشيخ وصعود قيادة جديدة، ممثلة في أبو جرة سلطاني، كشفت عن توجهات أكثر مرونة ومهادنة في التعامل مع السلطة السياسية، حيث سارع إلى دخول الحكومة، عن طريق وزارات بدون حقائب، وبعض الوزرات غير السيادية، كما أن حركة مجتمع السلم في عهده تحولت إلى رقم مهم في التحالف الرئاسي، وأصبحت مواقفها أكثر تقاربًا مع السلطة السياسية، أو مع شريكيها في التحالف التجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني.
بالإضافة إلى ما رافق تلك المرحلة من قضيا فساد وهدر للمال العام، حيث أصبح وزراء حماس غير بعيدين عنها، وهنا فقدت الحركة مصداقيتها عند الكثير من المناضلين، ووصل الأمر إلى الصف الأمامي أو الكثير من القيادات، التي أعلنت عن الحركة التصحيحية، داخل الحزب، ممهدة إلى الإنشقاق والتأسيس لحركة جديدة، متهمة سلطاني وأنصاره بالخروج عن المبادئ التي سطرها الشيخ محفوظ نحناح، وتحويل المعارضة الإسلامية إلى مجرد تابع لأحزاب المولاة، وهنا نجد التيار السلامي قد تطور، لكن عن طريق الإنشقاق والمزيد من التأكل الداخلي، مقارنة بالأحزاب الآخرى التي استطاعت المحافظة على تماسكها الداخلي.
كما أن دخول الانتخابات في شكل أحزاب منفصلة، لم يؤدي إلى تحسن النتائج المتحصل عليها من طرف جناحي حركة مجتمع السلم، خاصة في ظل بقاء ابو جرة سلطاني وسيع الكثير من القيادات إلى توحيد الصف واعتبار الانقسام مرحلي، وسرعان ما سيتم تجاوزه، وهذا ما بادر اليه الاسلامين عن طريق التكتل الأخضر أثناء الربيع العربي، حيث لم تحدث الوحدة، لكن كل من جبهة التغيير وحركة مجتمع السلم يدخلان تشريعيات 2014 تحت تكتل واحد، وقد ساعد إلى بروز هذا التكتل، نتائج الربيع العربي، التي حولته إلى ربيع إسلامي في دول الجوار، وهذا ما حالُ الاسلاميين في الجزائر توظيفه من أجل الوصول إلى السلطة، غير أن نتائج تلك الإنتخابات تعتبر الأسوء في تاريخ الاسلاميين منذ إقرار التعددية والانفتاح.
وقد تتابعت انكسارات الإسلاميين، خاصة بعد فشل الحركة، في تقديم مرشح للرئاسيات، وكذلك تحقيق نتائج غير مرضية على مستوى الانتخابات المحلية، وهذا ما دفع بالحركة إلى السعي لإعادة لملمة صفوفها، وتجاوز حالة الإنشطار والتشظي، التي أصبح قياديو الحركة يعتبرونها أهم عوامل الضعف وفقدان الثقة من طرف المناضلين في قيادات الحزب، حيث نجحت مساعي الحركة في إعادة توحيد كل من جبهة التغيير وحركة مجتمع السلم في جسم واحد، وهذا ما حدث قبيل رئاسيات 2019 والتي تعتبر حاسمة ومصيرية للكل الأحزاب السياسية.
ومن خلال هذا التطور يمكن ملاحظة جملة من تحولات، قد شهدها التيار السلامي ممثلاً في حركة مجتمع السلم، متمثلاً في الإنقسام، ثم التكتل، لكن رغم ذلك لم يحقق الإسلاميون أي نتائج مهمة في الإنتخابات، وهنا يمكن الإشارة أن مشكلة الإسلاميين، ليست في إنقسامهم أو توحدهم، وأنامًا هي مشكلة أعمق، ربما تعود جذورها إلى العشرية السوداء، حيث تم تحميلهم مسؤولية كل ما حدث، إضافة إلى محاولتهم تصحيح صورتهم لدى الناخب الجزائري، وذلك عن طريق تقديم الكثير من التنازلات، وقبول المشاركة في السلطة، والتورط في قضايا فساد، وبذلك تحولوا إلى مجرد معارضة شكلية، غير فاعلة وغير مؤثرة في الساحة السياسية الجزائرية، خاصة بعد الربيع العربي وانتكاسة الاسلاميين في مصر، وتمييع نهجهم في تونس، عن طريق تنازلات مجانية قدمتها حركة النهضة من اجل الاحتفاظ بجزء من السلطة، وهذا ما افقد الاسلاميين في الجزائر امكانية لعب اي دور، خاصة بعد حراك 22 فبراير، وتعرض قيادات حركة مجتمع السلم، رغم كل الجهود الاصلاحية التي قام بها مقري، إلى الرفض الشعبي، وعدم السماح لهم بالمشاركة في الحراك، وهذا دليل آخر على أن التجربة الإسلامية في الجزائر، من خلال حركة مجتمع السلم كأكبر حركة إسلامية في الجزائر، قد خسر مكانته لدى الشارع الجزائري، وأصبح محسوب على الأحزاب المجهرية، التي ليس لها دور داخل أجهزة السلطة، ولا هي قادرة على تحريك الشارع أو تمثيله في المرحلة القادمة.
أضف تعليقا